فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَينِ}.
فيه وجهان:
أحدهما: هو إرسال أحدهما إلى الآخر، قاله الضحاك.
الثاني: هو تخليتها، حكاه النقاش وقال الأخفش مأخوذ من مَرَجْتَ الشيء إذا خليته، وَمَرَجَ الوالي الناس إذا تركهم، وأمرجت الدابّة إذا خليتها ترعى، ومنه قول العجاج.
رَعى بها مَرْج ربيع ممرجًا

وفي البحرين ثلاثة أقاويل:
أحدها: بحر السماء وبحر الأرض، وهو قول سعيد، ومجاهد.
الثاني: بحر فارس والروم، وهو قول الحسن.
الثالث: بحر العذب وبحر المالح. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} قال عطاء:
الفرات: العذب، وقيل هو أعذب العذب.
وفي الأجاج: ثلاثة أقاويل:
أحدها: أنه المالح، وهو قول عطاء، وقيل: هو أملح المالح.
الثاني: أنه المر، وهو قول قتادة.
والثالث: أنه الحار المؤجج، مأخوذ من تأجج النار، وهو قول ابن بحر.
{وََجَعلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا} فيه ثلاثة أقويل:
أحدها: حاجز من البر، وهو قول الحسن، ومجاهد.
الثاني: أن البرزخ: التخوم، وهو قول قتادة.
والثالث: أنه الأجل ما بين الدنيا والآخرة، وهو قول الضحاك.
{وَحِجْرًا مَّحْجُورًا} أي مانعًا لا يختلط العذب بالمالح، ومنه قول الشاعر:
فَرُبّ في سُرادقٍ محجورِ ** سرت إليه من أعالي السور

محجور أي ممنوع.
وتأول بعض المتعمقين في غوامض المعاني أن مرج البحرين قلوب الأبرار مضيئة بالبر، وهو العذب، وقلوب الفجار مظلمة بالفجور وهو الملح الأجاج، وهو بعيد.
قوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا} يعني من النطفة إنسانًا.
{فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} فالنسب مِن تناسُب كل والد وولد، وكل شيء أضفته إلى شيء عرفته به فهو مناسِبُهُ.
وفي الصهر وجهان:
أحدهما: أنه الرضاع وهو قول طاووس.
الثاني: أنه المناكح وهو معنى قول قتادة، وقال الكلبي: النسب من لا يحل نكاحه من القرابة، والصهر من يحل نكاحه من القرابة وغير القرابة.
وأصل الصهر الاختلاط، فسميت المناكح صهرًا لاختلاط الناس بها، ومنه قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُوِهِم} [الحج: 20] وقيل إن أصل الصهر الملاصقة.
قوله عز وجل: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبّهِ ظَهِيرًا} فيه وجهان:
أحدهما: عونًا، مأخوذ من المظاهر وهي المعونة، ومعنى قوله: {عَلَى رَبِّهِ} أي على أولياء ربه.
الثاني: هينًا، مأخوذ من قولهم ظهر فلان بحاجتي إذا تركها واستهان بها قال تعالى: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُم ظِهْريًّا} [هود: 92] أي هينًا، ومنه قول الفرزدق:
تميم بن زيد لا تكونن حاجتي ** بظهرٍ فلا يعيا عَلَيّ جوابها

قيل إنها نزلت في أبي جهل. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ}.
اضطرب الناس في تفسير هذه الآية فقال ابن عباس أراد بحر السحاب والبحر الذي في الأرض، ورتبت ألفاظ الآية على ذلك، وقال مجاهد البحر العذب هو مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وقوعها فيه هو مرجها. قال والبرزخ والحجر هو حاجز في علم الله لا يراه البشر، وقاله الزجاج، وقالت فرقة معنى {مرج} أدام أحدهما في الآخر، وقال ابن عباس خلى أحدهما على الآخر ونحو هذا من الأقوال التي تتداعى مع بعض ألفاظ الآية، والذي أقول به في الآية إن المقصد بها التنبيه على قدرة الله تعالى وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياهًا عذبة كثيرة من أنها وعيون وآبار، وجعلها خلال الأجاج وجعل الأجاج خلالها، فتلقى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه، وتلقى الماء العذب في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج فبثها هكذا في الأرض هو خلطها، وهو قوله: {مرج} ومنه مريج أي مختلط مشتبك، ومنه مرجت عهودهم في الحديث المشهور، و{البحران} يريد بهما جميع الماء العذب وجميع الماء الأجاج، كأنه قال مرج نوعي الماء والبرزخ الحجر هو ما بين من الأرض واليبس، قاله الحسن، ومنه القدرة التي تمسكها مع قرب ما بينهما في بعض المواضع. وبكسر الحاء قرأ الناس كلهم هنا والحسن بضم الحاء في سائر القرآن، والفرات الصافي اللذيذ المطعم، والبرزخ الحاجز بين الشيئين، وقرأ الجمهور {هذا ملح} وقرأ طلحة بن مصرف {هذا مَلِح} بكسر اللام وفتح الميم، قال أبو حاتم هذا منكر فقي القراءة، قال ابن جني أراد مالحًا وحذف الألف كبرد وبرد، والأجاج أبلغ ما يكون من الملوحة، وقوله تعالى: {وهو الذي خلق من الماء} الآية، هو تعديد النعمة على الناس في إيجادهم بعد العدم، والتنبيه على العبرة في ذلك وتعديد النعمة في التواشج الذي جعل بينهم من النسب والصهر، وقوله: {من الماء} إما أن يريد أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء، وإما أن يريد نطف الرجال وكل ذلك قالته فرقة، والأول أفصح وأبين، والنسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين كل آدميين، فالنسب هو أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو في أم قرب ذلك أو بعد، والصهر تواشج المناكحة، فقرابة الزوجة هم الأختان، وقرابة الزوج ثم الأحماء والأصهار يقع عامًا لذلك كله، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه النسب ما لا يحل نكاحه والصهر ما يحل نكاحه وقال الضحاك الصهر قرابة الرضاع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال حرم من النسب سبع ومن الصهر خمس، وفي رواية أخرى من الصهر سبع يريد قول الله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت} [النساء: 23]، فهذا هو من النسب. ثم يريد بالصهر قوله تعالى: {وأمهاتكم التي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم التي في حجوركم من نسائكم التي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين} [النساء: 23]، ثم ذكر المحصنات، ومجمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر مع ما ذكر معه فقصد مما ذكر إلى عظمه وهو الصهر لأن الرضاع صهر وإنما الرضاع عديل النسب يحرم منه ما يحرم من النسب بحكم الحديث المأثور فيه، ومن روى وحرم من الصهر خمس أسقط من الآية الجمع بين الأختين والمحصنات وهن ذواتي الأزواج، وحكى الزهراوي قولًا أن النسب من جهة البنين والصهر من جهة البنات.
قال الفقيه الإمام القاضي: وهذا حسن وهو في درج ما قدمته، وقال ابن سيرين نزلت هذه الآية في النبي صلى الله عليه وسلم وعلي لأنه جمعه معه نسب وصهر فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. وقوله: {وكان ربك قديرًا} هي {كان} التي للدوام قبل وبعد لا أنها تعطي مضيًا فقط، ثم ذكر تعالى خطأهم في عبادته أصنامًا لا تملك لهم ضرًا ولا نفعًا وقوله: {وكان الكافر على ربه ظهيرًا} فيه تأويلان: أحدهما أن {الظهير} المعين فتكون الآية بمعنى توبيخهم على ذلك من أن الكفار يعينون على ربهم غيرهم من الكفرة والشيطان بأن يطيعوه ويظاهروه، وهذا هو تأويل مجاهد والحسن وابن زيد، والثاني ذكره الطبري أن يكون {الظهير} فعيلًا، من قولك ظهرت الشيء إذا طرحته وراء ظهرك واتخذته ظهريًا، فيكون معنى الآية على هذا التأويل احتقار الكفرة، و{الكافر} في هذه الآية اسم الجنس وقال ابن عباس بل هو معين أراد به أبا جهل بن هشام.
قال الفقيه الإمام القاضي: ويشبه أن أبا جهل سبب الآية ولكن اللفظ عام للجنس كله. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وهو الذي مَرَجَ البَحرين} قال الزجاج: أي: خلَّى بينهما؛ تقول: مرجتُ الدابَّة وأمرجتُها: إِذا خلَّيتَها ترعى، ومنه الحديث: «مَرِجَتْ عهودُهم وأماناتهم» أي: اختلطت.
قال المفسرون: والمعنى أنه أرسلهما في مجاريهما، فما يلتقيان، ولا يخنلط المَلِح بالعذب، ولا العذب بالمَلِحِ، وهو قوله: {هذا} يعني: أحد البحرين {عَذْبٌ} أي: طيِّب؛ يقال: عَذُبَ الماءُ يَعْذُبُ عُذوبةً، فهو عَذْبٌ.
قال الزجاج: والفُرات صفة للعَذْب، وهو أشد الماء عُذوبة، والأُجَاج صفة للملح، وهو: المُرُّ الشديد المرارة.
قال ابن قتيبة: هو أشد الماء ملوحة، وقيل: هو الذي يُخالطه مرارةٌ، ويقال: ماءٌ مِلح، ولا يقال: مالح، والبرزخ: الحاجز.
وفي هذا الحاجز قولان:
أحدهما: أنه مانع من قدرة الله تعالى، قاله الأكثرون.
قال الزجاج: فهما في مرأى العين مختلطان، وفي قدرة الله منفصلان لا يختلط أحدهما بالآخر.
قال أبو سليمان الدمشقي: ورأيت عند عَبَّادان من سواد البصرة الماءَ العذب يَنحدر في دجلة نحو البحر، ويأتي المَدُّ من البحر، فيلتقيان، فلا يختلط أحد الماءين بالآخر، يُرى ماء البحر إِلى الخُضرة الشديدة، وماء دجلة إِلى الحُمرة الخفيفة، فيأتي المستقي فيغرف من ماء دجلة عذبًا لا يخالطه شيء، وإِلى جانبه ماء البحر في مكان واحد.
والثاني: أن الحاجز: الأرض واليَبَس، وهو قول الحسن؛ والأول أصح.
قوله تعالى: {وحِجْرًا محجورًا} قال الفراء: أي: حرامًا محرَّمًا أن يغلب أحدهما صاحبه.
قوله تعالى: {وهو الذي خَلَقَ من الماء بَشَرًا} أي: من النُّطفة بَشَرًا، أي: إِنسانًا {فجعله نَسَبًا وصِهْرًا} أي: ذا نسب وصِهْرِ.
قال علي عليه السلام: النَّسَب: ما لا يحل نكاحه، والصِّهر: ما يَحِلُّ نكاحه.
وقال الضحاك: النسب سبع، وهو قوله: {حُرِّمت عليكم أمهاتُكم} [النساء: 23] إِلى قوله: {وبناتُ الأُخت} [النساء: 23]، والصِّهر خمس، وهو قوله: {وأُمهاتُكم اللاَّتي أرضعنكم} [النساء: 23] إِلى قوله: {مِنْ أصلابكم} [النساء: 23].
وقال طاووس: الرَّضاعة من الصِّهر.
قال ابن قتيبة: {نَسَبًا} أي: قرابة النَّسَب، {وصِهرًا} أي: قرابة النكاح.
وكل شيء من قِبَل الزوج، مثل الأب والأخ، فهم الأحماء، واحدهم حَمًا، مثل: قَفًا، وحَمُو مثل أَبُو، وحَمْمءٌ مهموز ساكن الميم، وحَمٌ مثل أَبٍ.
وحَمَاة المرأة: أُمُّ زوجها، لا لغة فيها غير هذه وكلّ شيء من قِبَل المرأة، فهم الأَخْتان.
والصِّهر يجمع ذلك كلّه.
وحكى ابن فارس عن الخليل، أنه قال: لا يقال لأهل بيت الرجل إِلا أَختان، ولأهل بيت المرأة إِلا أصهار.
ومن العرب يجعلهم أصهارًا كلّهم.
والصَّهْر: إِذابة الشيء.
وذكر الماوردي أن المَناكح سمِّيتْ صِهْرًا، لاختلاط الناس بها كما يختلط الشيء إِذا صُهِر.
قوله تعالى: {وكان الكافر على ربِّه ظهيرًا} فيه أربعة أقوال.
أحدها: مُعينًا للشيطان على ربِّه، لأن عبادته للأصنام معاونة للشيطان.
والثاني: مُعينًا للمشركين على أن لا يوحِّدوا الله تعالى.
والثالث: مُعِينًا على أولياء ربِّه.
والرابع: وكان الكافر على ربِّه هيِّنًا ذليلًا، من قولك: ظَهَرتُ بفلان: إِذا جعلتَه وراء ظهرك ولم تلتفت إِليه.
قالوا: والمراد بالكافر هاهنا أبو جهل. اهـ.